نشأة الفقه وتدوينة وتعدد المدارس الفقهية
الفقه في عصر النبي ﷺ
لم يكن
الصحابة -رضوان الله عليهم- في حاجة إلى تدوين الفقه في هذا العصر ، وذلك لوجود
النبي -ﷺ- بين ظهرانيهم ، يرونه في معاملاته وعباداته فيفعلون كما يفعل امتثلا
لأمر ربنا عز وجل «لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ
فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ» [الأحزاب - 21] وطاعة لرسول الله -ﷺ- «صلوا كما رأيتموني أصلي» [صححه البخاري]
وإذا أشكل عليهم
شيئا ذهبوا إلى رسول الله -ﷺ- فيبين لهم ، وربما أقر بعضهم على فعلين مختلفين كما
في حديث أبو سعيد الخدري «خرجَ رجلانِ في سفَرٍ،
فحضرتِ الصَّلاةُ وليسَ معَهُما ماءٌ، فتيمَّما صَعيدًا طيِّبًا فصلَّيا، ثمَّ
وجدا الماءَ في الوقتِ، فأعادَ أحدُهُما الصَّلاةَ والوضوءَ ولم يُعدِ الآخرُ،
ثمَّ أتيا رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ فذَكَرا ذلِكَ لَهُ فقالَ
للَّذي لم يُعِد: أصبتَ السُّنَّةَ، وأجزَأتكَ صلاتُكَ. وقالَ للَّذي توضَّأَ
وأعادَ: لَكَ الأجرُ مرَّتينِ» [صححه أبو داود]
وكما في حديث
عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: «قَالَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَومَ الأحْزَابِ: لا
يُصَلِّيَنَّ أحَدٌ العَصْرَ إلَّا في بَنِي قُرَيْظَةَ. فأدْرَكَ بَعْضُهُمُ
العَصْرَ في الطَّرِيقِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لا نُصَلِّي حتَّى نَأْتِيَهَا،
وقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ نُصَلِّي، لَمْ يُرِدْ مِنَّا ذلكَ، فَذُكِرَ ذلكَ
للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَلَمْ يُعَنِّفْ واحِدًا منهمْ» [صححه البخاري]
فمن الواضح أن النبي -ﷺ- أقر
أصحابه -رضوان الله عليهم- على اختلافهم في فهم النصوص ، وأقر بعضهم على الاجتهاد
برأيه ، ونها أن يفتي الجاهل بما لا يعلم كما في حديث جابر بن عبد الله -رضي الله
عنهما- قال:« خَرَجْنا في سَفَرٍ، فأصابَ رَجُلًا مِنَّا حَجَرٌ
فشَجَّه في رَأْسِه، ثم احتَلَمَ، فسألَ أصحابَه، فقال: هل تَجِدونَ لي رُخصةً في
التَّيمُّمِ؟ فقالوا: ما نَجِدُ لكَ رُخصةً وأنتَ تَقدِرُ على الماءِ. فاغتَسَلَ،
فماتَ، فلَمَّا قَدِمْنا على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أُخبِرَ بذلك،
فقال: قَتَلوه قَتَلَهمُ اللهُ، ألَا سألوا إذْ لم يَعلَموا؛ فإنَّما شِفاءُ
العِيِّ السُّؤالُ، إنَّما كان يَكفيه أنْ يَتيَمَّمَ ويَعصِرَ أو يَعصِبَ -شَكَّ
موسى- على جُرحِه خِرقةً، ثم يَمسَحَ عليها ويَغسِلَ سائِرَ جَسَدِه» [صححه أبو
داوود]
وإذا كان الأمر كذلك فلا مانع
أن يختلف العلماء في المسألة الواحدة ، ولا ضرر في تعدد المذاهب الفقهية ، ولكن
نرفض بشدة أن يصدر جاهل فتوة في الدين ، ومن أراد يتصدر الفتوى فعليه أن يتعلم
أولا.
وكما نرى خلاف الصحابة لم ينشأ
عنه جدل أو تعصب لرأي معين ، ولكن الكل يجتهد بحسب فهمه لكلام رسول الله -ﷺ- على
وفق ضوابط معلومة ، ولا يسمحون بالتعصب للرأي ، وقد نهاهم رسولنا -ﷺ- عن الجدال كما
في حديث أَبي أُمَامَة الباهِليِّ -رضي الله عنه- قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّه ﷺ:
أَنا زَعِيمٌ ببَيتٍ في ربَضِ الجنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ المِرَاءَ وَإِنْ كَانَ
مُحِقًّا، وَببيتٍ في وَسَطِ الجنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الكَذِبَ وإِن كَانَ مازِحًا،
وَببيتٍ في أعلَى الجَنَّةِ لِمَن حَسُنَ خُلُقُهُ» [صححه أبو داوود]
قال شخ
الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- «إن مثل هذه المسائل الاجتهادية لا تنكر باليد ،
وليس لأحد أن يلزم الناس باتباعه فيها ولكن يتكلم فيها بالحجج العلمية فمن تبين له
صحة أحد القولين تبعه ومن قلد أهل القول الآخر فلا إنكار عليه »[مجمع الفتاوى
(80/30)]
وقال عمر بن
عبد العزيز -رحمه الله- «لا يعجبني أن أصحاب محمد -ﷺ- لم يختلفوا لأنهم لو لم
يختلفوا لم تكن رخصة» [التذكرة في الأحاديث المشتهرة (64،65)]