السنة النبوية ومراحل التدوين
المقدمة:بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم إلى يوم الدين، وبعد.
لقد مرت السنة النبوية بعدة مراحل حتى وصلت إلينا مدونة كما نرها الآن ، حتى إننا لا نتكلف عناء في الوصول إلى الحديث المطلوب ، وسهل علينا بحثة ومعرفة معناه ، والفضل في ذلك يرجع إلى السلف رحمهم الله وما بذلوه من جهد استحقوا به تخليد أسمائهم ليُترحم عليهم بعد أكثر من ألف سنة مضت على فراقهم للدنيا، فرحمة الله على السلف ، وبارك الله في الخلف.
مراحل تدوين السنة:
المرحلة الأولى (التدوين في العصر النبوي)
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لا تَكْتُبُوا عَنِّي وَمَنْ كَتَبَ
عَنِّي غَيْرَ الْقُرْآنِ فَلْيَمْحُهُ وَحَدِّثُوا عَنِّي وَلا حَرَجَ ...) [1]
قال النووي في شرحه لصحيح مسلم: قَالَ الْقَاضِي: كَانَ
بَيْن السَّلَف مِنْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ اِخْتِلاف كَثِير فِي كِتَابَة
الْعِلْم ، فَكَرِهَهَا كَثِيرُونَ مِنْهُمْ ، وَأَجَازَهَا أَكْثَرهمْ ، ثُمَّ
أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازهَا ، وَزَالَ ذَلِكَ الْخِلاف.
وَاخْتَلَفُوا
فِي الْمُرَاد بِهَذَا الْحَدِيث الْوَارِد فِي النَّهْي:
- فَقِيلَ: هُوَ فِي حَقّ مَنْ يَوْثُق بِحِفْظِهِ ، وَيُخَاف
اِتِّكَاله عَلَى الْكِتَابَة إِذَا كَتَبَ ، وَتُحْمَل الأَحَادِيث الْوَارِدَة
بِالإِبَاحَةِ عَلَى مَنْ لا يَوْثُق بِحِفْظِهِ كَحَدِيثِ: “ اُكْتُبُوا لأَبِي
شَاه “ ، وَحَدِيث صَحِيفَة عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ (التي فيها العَقْلُ،
وفَكَاكُ الأسِيرِ، وأَنْ لا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بكَافِرٍ) ، وَحَدِيث كِتَاب عَمْرو
بْن حَزْم الَّذِي فِيهِ الْفَرَائِض وَالسُّنَن وَالدِّيَات. وَحَدِيث كِتَاب
الصَّدَقَة وَنُصُب الزَّكَاة الَّذِي بَعَثَ بِهِ أَبُو بَكْر رَضِيَ اللَّه
عَنْهُ أَنَسًا رَضِيَ اللَّه عَنْهُ حِين وَجَّهَهُ إِلَى الْبَحْرَيْنِ،
وَحَدِيث أَبِي هُرَيْرَة أَنَّ اِبْن عَمْرو بْن الْعَاصِ كَانَ يَكْتُب وَلا
أَكْتُب ، وَغَيْر ذَلِكَ مِنْ الأَحَادِيث.
- وَقِيلَ: إِنَّ حَدِيث النَّهْي مَنْسُوخ بِهَذِهِ
الأَحَادِيث ، وَكَانَ النَّهْي حِين خِيفَ اِخْتِلَاطُهُ بِالْقُرْآنِ فَلَمَّا
أَمِنَ ذَلِكَ أَذِنَ فِي الْكِتَابَة.
- وَقِيلَ: إِنَّمَا نَهَى عَنْ كِتَابَة الْحَدِيث مَعَ
الْقُرْآن فِي صَحِيفَة وَاحِدَة ؛ لِئَلا يَخْتَلِط ، فَيَشْتَبِه عَلَى
الْقَارِئ فِي صَحِيفَة وَاحِدَة. وَاللَّهُ أَعْلَم. اهـ.[2]
وفي حالات أمن الالتباس عند بعض الصحابة سمح لهم
بالكتابة: فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رضي الله عنهما- ،
قَالَ كُنْتُ أَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ أَسْمَعُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم أُرِيدُ حِفْظَهُ فَنَهَتْنِي قُرَيْشٌ وَقَالُوا أَتَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ
تَسْمَعُهُ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَشَرٌ يَتَكَلَّمُ فِي
الْغَضَبِ وَالرِّضَا فَأَمْسَكْتُ عَنِ الْكِتَابِ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَوْمَأَ بِأُصْبُعِهِ إِلَى فِيهِ فَقَالَ “
اكْتُبْ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ إِلاَّ حَقٌّ ”.[3]
وفي حجَّة الوداع عندما خطب رسول الله صلى الله عليه
وسلم خطبته الجامعة قال أبو شاه - رجل من اليمن - (اكتب لي يا رسول الله، فقال:
اكتبوا لأبي شاه)[4]
قال ابن حجر: وَيُسْتَفَاد مِنْ قِصَّة أَبِي شَاه
(أكتبوا لأبي شاه) أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذِنَ فِي
كِتَابَة الْحَدِيث عَنْهُ ، وَهُوَ يُعَارِض حَدِيث أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيِّ
أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ “ لا تَكْتُبُوا
عَنِّي شَيْئًا غَيْر الْقُرْآن “ رَوَاهُ مُسْلِم .
الْجَمْع بَيْنهمَا:
1.
أَنَّ النَّهْي خَاصّ بِوَقْتِ نُزُول الْقُرْآن خَشْيَة
اِلْتِبَاسه بِغَيْرِهِ ، وَالإِذْن فِي غَيْر ذَلِكَ.
2.
أَوْ أَنَّ النَّهْي خَاصّ بِكِتَابَةِ غَيْر الْقُرْآن
مَعَ الْقُرْآن فِي شَيْء وَاحِد وَالإِذْن فِي تَفْرِيقهمَا.
3.
أَوْ النَّهْي مُتَقَدِّم وَالإِذْن نَاسِخ لَهُ عِنْد
الأَمْن مِنْ الِالْتِبَاس وَهُوَ أَقْرَبهَا مَعَ أَنَّهُ لا يُنَافِيهَا.
4.
وَقِيلَ النَّهْي خَاصّ بِمَنْ خُشِيَ مِنْهُ الاتِّكَال
عَلَى الْكِتَابَة دُون الْحِفْظ ، وَالإِذْن لِمَنْ أُمِنَ مِنْهُ ذَلِكَ.
قَالَ الْعُلَمَاء: كَرِهَ جَمَاعَة مِنْ الصَّحَابَة
وَالتَّابِعِينَ كِتَابَة الْحَدِيث وَاسْتَحَبُّوا أَنْ يُؤْخَذ عَنْهُمْ حِفْظًا
كَمَا أَخَذُوا حِفْظًا ، لَكِنْ لَمَّا قَصُرَتْ الْهِمَم وَخَشِيَ الأَئِمَّة
ضَيَاع الْعِلْم دَوَّنُوهُ. اهـ [5]
المرحلة الثانية (التدوين في عصر الصحابة)
عن عروة بن الزبير أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه
أراد أن يكتب السنن، فاستشار أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في ذلك،
فأشاروا عليه أن يكتبها، فطفق عمر يستخير الله فيها شهراً، ثم أصبح يوماً وقد عزم
الله له، فقال: إني كنت أردت أن أكتب السنن، وإني ذكرت قوماً، كانوا قبلكم، كتبوا
كتباً، فأكبوا عليها، وتركوا كتاب الله، وإني والله لا ألبس كتاب الله بشيء أبداً.[6]
المرحلة الثالثة (التدوين في عصر التابعين)
كتب عبد العزيز بن مروان (أبو عمر بن عبد العزيز)
إلى كثير بن مرة الحضرمي رحمه الله حين كان أميرا على مصر، وكان كثير بن مرة أدرك
سبعين بدريا من الصحابة، فقال له الأمير:” اكتب إلينا بما سمعت من الصحابة إلا
حديث أبو هريرة فإنه عندنا[7]
قال الإمام البخاري: " وكتب عمر بن عبد العزيز
إلى أبي بكر بن حزم: انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاكتبه،
فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء، ولا تقبل إلا حديث النبي صلى الله عليه وسلم،
ولتفشوا العلم، ولتجلسوا حتى يعلم ما لم يعلم، فإن العلم لا يهلك حتى يكون سراً.[8]
قال الحافظ ابن حجر: وأول من دون الحديث ابن شهاب الزهري على رأس المائة بأمر عمر بن عبد العزيز.[9]
ولما تم انجازه بعث به عمر إلى كل أرض دفترا من دفاتره
قصدا للنشر والعمل، وعلى إثره يقول ابن شهاب: "لم يدون هذا العلم أحد قبل
تدويني".[10]
المرحلة الأخيرة (تأليف السنة على هيئة كتب مصنفة مرتبة)
وما أن أصدر الخليفة الراشد والإمام العدل عمر بن عبد العزيز أمره الكريم
بتدوين السنة المطهرة ، حتى نشط علماء المسلمين لتلبية هذا النداء ، وبدأ التصنيف
في السنة المطهرة ، وبدأت المصنفات الحديثية في الظهور.[11]
- الجامع الصحيح للإمام البخاري (ت 256هـ) وقد التزم فيه
الصحة، وهو أصح كتاب بعد القرآن الكريم.
- الجامع الصحيح للإمام مسلم (ت261هـ) وقد التزم فيه الصحة،
ولكن شروط التصحيح عنده أخف من شروط البخاري، فهو الكتاب الثاني بعد كتاب البخاري.
- الجامع الصحيح للإمام الترمذي (ت 279هـ) ولم يلتزم فيه
بالصحة.
· كتب السنن: مرتبة على الأبواب الفقهية، فهي مقتصرة على الأحاديث النبوية
- سنن أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني (ت275هـ) وقد
جمع في كتابه الصحيح والحسن، ولم يورد الضعيف إلا نادراً، وقد نبه عليه، وضعيفه
مقبول، وليس فيه الضيف المردود أو الموضوع.
- سنن النسائي: للإمام أبي عبدالرحمن أحمد بن شعيب النسائي
(ت303هـ) وهو كذلك على أبواب الفقه وفيه الصحيح والحسن والضعيف المقبول.
- سنن الدارمي: عبدالله بن عبدالرحمن الدارمي (ت 255هـ).
- سنن ابن ماجة للإمام محمد بن يزيد بن ماجة القزويني
(ت273هـ) وفيه الصحيح، والحسن، والضعيف وبعض الضعيف المردود.
· كتب المسانيد: مرتبة على أسماء الصحابة، فجمعوا أحاديث كل صحابي في
مكان واحد على حدة.
- مسند الإمام أحمد بن حنبل المتوفى سنة 241هـ.
- مسند الحميدي (أبي بكر عبدالله بن الزبير الحميدي)
المتوفى سنة 219هـ.
- مسند الطيالسي (أبي داود بن سليمان بن داود الطيالسي)
المتوفى سنة 204هـ.
- مسند أبي يعلي المصولي (أحمد بن علي المثنى الموصلي)
المتوفى سنة 307هـ.
- مسند عبد بن حميد المتوفى سنة 249هـ.
· المصنفات: مرتبة على أبواب الفقه وتشتمل على الأحاديث النبوية وأقوال الصحابة
وفتاوى التابعين وتابعيهم أحياناً.
- المصنف لأبي بكر عبدالرزاق بن همام الصنعاني المتوفى
211هـ.
- المصنف لأبي بكر عبدالله بن محمد بن أبي شيبة الكوفي
المتوفى 235هـ.
- المصنف لبقي بن مخلد القرطبي المتوفى 276هـ.
- المصنف لأبي سفيان وكيع بن الجراح الكوفي المتوفى 196هـ.
- المصنف لأبي سلمة حماد بن سلمة البصري المتوفى 167هـ.
[1] - رواه مسلم (الزهد والرقائق/5326)
[2] - "شرح مسلم" (18/129-130)
[3] - أحمد وأبو داود واللفظ له رقم (3646) باب
في كتاب العلم 3/318.
[4] - الشيخان واللفظ لمسلم رقم (1355) باب
تحريم مكة 2/988.
[5] - "فتح الباري" (1/208).
[6] - جامع بيان
العلم وفضلة 1/78
[7] - سير أعلام
النبلاء. 4/47
[8] - رواه البخاري في كتاب العلم – باب كيف
يقبض العلم. 1/49
[9] - فتح الباري. 1/208
[10] - الرسالة المستطرفة 1/3
[11] - تاريخ السنة النبوية / أ د. الخشوعي
الخشوعي محمد الخشوعي / ص 284